ضرورة تجنب الاستثمارات عالية المخاطر‏..‏ والالتزام بالاستثمارات المأمونة

حتي لا يقتحم فساد الأصولية الرأسمالية حصن الأمن الاجتماعي

بقلم‏:‏ أسامة غـيـث


تعد شبكة الامان الاجتماعي في دول العالم المتقدم والنامي علامة فارقة من علامات التحضر والتمدن وركيزة رئيسية من ركائز المسئولية الاجتماعية للدول وهي مسئولية تعلو علي جميع الايديولوجيات لأنها ترتبط بالاستقرار السياسي والاجتماعي‏,‏ وترتبط بمفهوم دول الرفاهية الساعية لتوفير الحد اللائق أو علي الأقل الحد الضروري من متطلبات الحياة والوجود لكل مواطن بغض النظر عن قدراته وامكانياته ومؤهلاته‏,‏
وبغض النظر عن دينه وعقيدته وعنصره وتحولت شبكات الأمان الاجتماعي الي
جزء أصيل من الفكر الانساني المتحضر الحديث بالرغم من تكاليفها وبالرغم من أعبائها المالية علي موازنة الدول وتوسعت العديد من الدول الرأسمالية في أوروبا الغربية في صور وأشكال الضمان الاجتماعي ومساندة أصحاب المعاشات والأقل دخلا والأقل ثروة لمواجهة أعباء الحياة وتكاليفها حتي كادت أن تفوق المطبق في الدول الاشتراكية علي الأخص منذ الكساد العالمي الكبير في الثلاثينيات ودخلت أمريكا الكاهن الأكبر والأعظم للرأسمالية الي حلبة الضمان الاجتماعي بكل الشدة والعنف ومع الستينيات اضافت اليها محور التأمين الصحي‏.‏
وبالمنطق الرأسمالي الصرف فإن شبكة الأمان الاجتماعي التي تشرف عليها الحكومات وتتحمل جزءا مهما من تبعاتها وأعبائها الموازنات العامة للدول لم تحرم العاملين بالحكومة والقطاع العام وقد كان مزدهرا وواسعا ومتنوعا ومتعددا في أوروبا الغربية وأمريكا في الثمانينيات من الاشتراك في نظم للمعاشات ونظم للتأمين الصحي مكملة واضافية تحقق للمشتركين المزيد من المنافع و المزايا خلال فترة العمل‏,‏ وتصبح رافدا رئيسيا للمساعدة والعون عند الخروج للمعاش والتوقف عن العمل وكذلك الحال بالنسبة للعاملين بالقطاع الخاص ومنشآته وهي نظم تتم اساسا بعقلية القطاع الخاص وتحت اشرافه وتحولت صناديق المعاشات الي كيانات عملاقة وديناصورية علي الأخص في الولايات المتحدة الأمريكية وامتلكت وأدارت واستثمرت مئات المليارات من الدولارات
وفي عهد الرئيس الأمريكي السابق كارتر تعرضت لأزمة حادة وعنيفة نتيجة لارتباط جانب مهم من أعمالها بالرهن العقاري وشركاته ومؤسساته وخسر أصحاب المعاشات جزءا كبيرا من مدخراتهم وأموالهم نتيجة الاستثمارات عالية المخاطر التي تدير بها صناديق المعاشات هذه المدخرات وكان السند الباقي وحصن الأمان الواقي هو شبكة الأمان الاجتماعي التي توفرها الحكومات وهي توفرها لجميع العاملين بالحكومة والقطاع العام وتمتد أيضا الي القطاع الخاص بشكل الزامي عندما يصل عدد العاملين في المنشأة الي عدد معين وكذلك تشمل أصحاب الأعمال الصغيرة وأصحاب المهن الحرة المختلفة‏.‏
ومع ارتفاع العجز بالموازنات العامة في الدول الصناعية الكبري ومع تصاعده بمعدلات كبيرة وضخمة في ظل سياسات الأصولية الرأسمالية واليمين المحافظ صاحب الايديولوجية الاصولية المسيحية الصهيونية‏,‏ خاصة مع وصول جورج بوش الابن للرئاسة وسياسات التخفيض والإعفاء الضريبي الواسعة للأغنياء وقبله خلال حكم الرئيس ريجان ثم جورج بوش الأب وما أدت اليه من نقص كبير في ايرادات الحكومة الفيدرالية فإن صرخات الأصوليين الرأسمالية المحذرة من الافراط في تدخل الدولة في شئون الناس والاقتصاد والمعاملات وخطورة ذلك من وجهة نظرهم ـ علي حرية السوق والأعمال وتعطيلها للقوة الخفية للسوق القادرة علي التصحيح والتصويب السحري والسريع للأخطار والتغلب علي المشاكل قد تكشفت اخطاؤها ومفاسدها
وحاول جورج بوش الابن ان يعدل ويغير من قواعد شبكة الامان الاجتماعي ويدفع بها في اتجاه الخصخصة واتجاه المعاملات والتوظيف والاستثمارات الأكثر مخاطرة والأقل أمانا بحجة امكانية رفع الكفاءة ورفع العوائد ولكن التجارب المريرة السابقة في السنوات السابقة أفشلت الخطة ومنعت تنفيذها في ظل الرفض واسع النطاق للعاملين وأصحاب المعاشات‏.‏
ولم تجد الأصولية الرأسمالية متمثلة في مدرسة شيكاغو وراعيها الأكبر ميلتون فريدمان استاذ الاقتصاد بجامعة شيكاغو الأمريكية إلا ان يتم تصدير هذه الأفكار الي الدول النامية وأن يتم تكثيف تطبيقها في دول الفناء الخلفي بأمريكا اللاتينية وفي مقدمتها شيلي التي تحكم فيها تلامذة مدرسة شيكاغو ووصفات البنك الدولي للانشاء والتعمير وروشتات صندوق النقد الدولي تحت مظلة الانقلاب العسكري الذي رتبته أمريكا وقتلت فيه سلفادور الليندي رئيس شيلي الاشتراكي ونفذ الإعدام في عشرات الألوف من أنصاره علي امتداد فترة حكم الديكتاتور بينوتشيه الحاكم العسكري الذي قاد الانقلاب وساند حكمه بالمقابر الجماعية للمعارضين وبالتالي فإن ما تم في شيلي لا يعكس فقط رؤية اقتصادية بل يعكس رؤية سياسية في الحكم ورفض الرأي الاخر وتصفية المعارضة بكل الشدة والعنف والقسوة‏.‏
ومع الانهيار العالمي الكبير في النصف الثاني من العام الماضي وزلزال الانحراف المالي وفساد المؤسسات المالية وصناديق الاستثمار والتحوط والغش والتدليس في المشتقات المالية والرهون العقارية وغياب سلطة الدولة عن الرقابة والمتابعة فإن خسائر صناديق المعاشات الخاصة في أمريكا وحدها خلال الأشهر الستة الأخيرة من عام‏2008‏ وصلت لأكثر من تريليوني دولار تبخر معها الجانب المهم والرئيسي من أرصدة أصحاب المعاشات ومدخراتهم المستقبلية وكذا الحال في دول الاتحاد الأوروبي‏,‏ حتي ان تقديرات مجلة الايكونوميست البريطانية ذائعة الصيت والتأثير والنفوذ أكدت ان أصحاب المعاشات فقدوا الجانب الأكبر من أصول مدخراتهم‏,‏ اضافة الي خسارتهم لجميع الأرباح التي تحققت علي امتداد سنوات طويلة ماضية‏.‏

وفي هذا السياق الدولي المضطرب فإن طرح أية مقولات عن خصخصة شبكة الأمان الاجتماعي في مصر تحت مظلة الاصولية الرأسمالية‏,‏ وتحت مظلة نصائح مضروبة وملفقة من البنك الدولي بشكل مباشر ومن صندوق النقد الدولي بشكل غير مباشر لايمكن السماح بخروجها الي سطح الأحداث في ضوء ما كشفته بشكل واضح وصريح الخبرة العالمية المريرة في ظل الزلزال المالي والاقتصادي العالمي والتحذيرات الحادة المتصاعدة في أرجاء الكرة الأرضية من مخاطر الاستثمارات عالية المخاطر وفي مقدمتها استثمارات المشتقات والمستقبليات والأسهم والبورصات‏,‏ وضرورة الحرص الشديد علي الاستثمار الآمن المضمون‏,‏ وحتمية توفير الاستقرار الكامل لقواعد شبكة الأمان الاجتماعي للدولة وحصيلتها وعوائدها‏,‏
وحقوق أصحاب المعاشات بالصورة التي تضمن لهم الحياة الكريمة واللائقة وتجنبهم الوقوع فريسة للكوارث والزلازل المالية والاقتصادية العاصفة والمدمرة؟‏!.‏